وبذل السلام ربما كان أعجب من الإنصاف والإنفاق عن إقتار؛ لأن كثيراً من الناس يحتقرونه أو يهملونه، خصوصاً من طلبة العلم، فربما نرى من طلبة العلم من لا يبالي به، أو لا يهتم به، فقلما يسلم، ولا سيما إن مر في السوق، أو مكان عام على بعض من يرى أنهم من العوام، أو ممن هو متلبس بشيء من المعاصي، فيقول: ما الفائدة من السلام على هؤلاء؟ بل ربما يحدث هذا الخلل والتقصير أحياناً لدى الدخول أو المرور على بعض أهل الخير، وبعض الإخوة يتهاون بهذا الأمر، وهو مهم لا يجوز التهاون فيه، بل لابد أن تبذل السلام للعالم من المسلمين وأن تفشيه بينهم؛ لأن ذلك هو وسيلة المحبة كما قال صلى الله عليه وسلم: (
ألا أدلكم على عمل إن فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم ) فعندما يفشي السلام بين المؤمنين فإنه قد أسمعهم اسم الله تبارك وتعالى السلام، والإسلام هو دين السلام، ولو أن الواحد منا كان في مكان مهما كان ذلك المكان موحشاً في ظلمة الليل ومر عليه أحد وكان أول ما قاله له: السلام فإنه يرتاح وتهدأ روحه، ويشعر أن هذا الشخص فيه خير، وإن لم يبدأ بذلك، فإنه يتوقع منه الشر والعياذ بالله، فالسلام تحية أهل الجنة، وهو تحية هذه الأمة، وهو تحية أبينا آدم حين علمه الله تبارك وتعالى ذلك السلام، كما جاء في الحديث الصحيح أنه أمره أن يمر على الملائكة، وأن يسلم عليهم، ويعلم كيف يردون عليه، ثم جعل ذلك تحية في بنيه، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا أن نشيع السلام، وأن نشيع المحبة وأن نشيع الأخوة التي تستل ما في القلوب من ضغائن، فإن العرب الذين لم يتخلقوا بخلق الإسلام كانوا يعلمون ذلك ويرونه من الشيم والمناقب، فكيف بمن وفقه الله تبارك وتعالى للاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه.يقول الشاعر العربي:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا بل
كان العرب يعتبرون أن من الخلق أن تلقى من قاتلك أو قتل أباك أو أخاك فتسلم عليه، وتستقبله ويستقبلك، ويعدون هذا من غاية النبل وغاية السمو والخلق العالي عند الرجال، فكيف بالمؤمنين الذين يريدون وجه الله، ويريدون الدار الآخرة، والذين لا ينظرون إلى حظ نفوسهم، وإنما يراعون في كل ما يفعلون أو يدعون وجه الله تبارك وتعالى، فلا بد على المسلمين أن يبذلوا السلام للعالم، وأن يفشوا السلام في الأمة، وأن يحببوا الناس إلى هذا الدين، وإفشاء السلام خلق مهم للمسلم وإن كان الذي تسلم عليه ممن ترى أنه تلبس بشيء من المعاصي والبدع والمنكرات، فإنك تسلم عليه ثم تعظه بعد ذلك وتنصحه وتذكره، ولو بدأت الموعظة أو النصيحة من غير سلام لما قبل منك، وربما خسرت هذه الفضيلة، فلم توفق في دعوته، فبالسلام تستعطف قلبه وتشعره أنك تحبه، وتحب له الخير، ثم أنكر عليه وبين له ما ترى، فإذا كان هذا حالنا وأفشينا السلام في منتدياتنا وفي تجمعاتنا وفي طرقنا وفي أسواقنا وفي كل مكان فسنجد أن الناس يحبون الخير الذي نحمله؛ لأننا عملنا بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى من لم يتمسك بالدين فإنه يحب أهل الدين وأهل الدعوة، ويحب فيهم هذا الخلق الرفيع، فإذا لم تفش السلام فإن الناس تداخلهم الريبة والشكوك، ويقولون: هؤلاء متكبرون، أو هؤلاء الدعاة يكفروننا ويدعون أنه لا يدخل الجنة إلا هم، وأننا من أهل النار إلى غير ذلك مما يوسوس به الشيطان وإذا رأوا فينا الخلق الفاضل، ورأوا التواضع، ورأوا المحبة فإن ذلك أحرى أن تلين قلوبهم إلى الحق وإن لم يتقبلوه، وحينما لا يقبلوه فإن عداوتهم تكون أخف، وربما كان خلق بعض الشباب أو الدعاة سبباً في نفور ذلك العاصي أو الفاجر، فلا يعود للرشد أبداً.وبالمقابل فإن
الأخلاق الرفيعة عند بعض الدعاة تكون سبباً في رجوع العاصي وهدايته وعودته إلى الحق، وسبباً في توبته عن الذنوب.ولذلك فإن
عماراً رضي الله تعالى عنه اعتبر أن هذه الصفات الثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان، وهذه الأخلاق العظيمة منها ما يتعلق بالخلق المالي، وهو جانب الإنفاق من الإقتار، ومنها ما يتعلق بأمر عام مع الخلق كلهم، وهو إفشاء السلام، ومنها ما يتعلق بالتعامل مع الآخرين، وهو الإنصاف في المعاملة ولو مع النفس، وبهذه الثلاث يكتمل الإيمان عند العبد، والشاهد من هذا أن
عماراً رضي الله تعالى عنه يرى أن الإيمان يزيد وينقص، ويحث عامة الناس إلى استكمال إيمانهم بأن تكون فيهم هذه الخلال الثلاث.